سنوات مرت على ما كنا فيه من بدء الأعوام الدراسية، وبالاحتفاء بها، ترفّ بالحلم وتتسم بالآمال، وكلما عاد البدء في ذاكرة الشوق يكمن الانتظار على انتهاء عام، يترقب إجازة مدرسية كانت في الزمن البعيد تعني شغفاً يكتنف وجوه الأصدقاء بعد غياب، وسعياً وراء الحضور في وقع البدء، خطوات تسير ماضية، تدنو حثيثة على عتبات أبواب المدارس، تودع تثاقلها المقيت، وتهجر وقعها الصيفي، وتكثر تحركها أفواجاً بين محطات الفصول، تتناغم أحاديثهم وابتساماتهم، في ذاكرتهم يقظة الحلم، وروعة المعرفة، في سباق نحو صفوفهم، يتنادون بأسماهم ويتناجون بملذاتهم بقلب واحد، تزج بهم الصفوف قرباً، ويلوح بهم الشغب قليلاً حتى يجمعوا هدوءهم.
ومن عبق الذاكرة، تمر الحكايات ما قبل الصيف وبعده، ترتجي أساتذة في طلعتهم الود والمودة، وإذا لم يحضروا في حلة العام الجديد، فغيابهم أمر مؤثر، يتمهل الطلبة في حكمهم على الغياب، فكل الأساتذة المرنين والحازمين يقفون على صف واحد في الطابور الصباحي، وعليك ألا تستثني أحداً بنظراتك الخاطفة، وتستمع إلى خطابات ترحيبية، وعزف غنائي إذاعي يمجد الوطن.
حين ينتهي الطابور الصباحي تبدأ لحظة ولوجهم نحو الصفوف، في ازدحام شقي، وضوضاء عابرة تنتهي بهمسات متدفقة، وشيء من الصمت أمام هيبة أستاذهم، يحيل إليهم بحديثه الماتع، وأحاديثهم عن إجازات صيفية مرت قصصها على مضض. يقرأ الأسماء ويتلوها في لحظة تعارف ما بين الأستاذ وطلبته، تتصف اللحظة باختلاج رفيف بين القلوب تستل الحروف وتنهج على ألسنتهم حتى تنتهي الحصة إثر الحصة، ويحضر المدرس بعد الآخر، وتفتح الساحة المدرسية ذراعيها، والمقصف إليه يزحف الطلبة في ارتباك بأجسادهم الضئيلة، كلٌ يبتغي شيئاً من شطائر تسد رمق الجوع.
فسيفساء البدء المدرسي ذات ذائقة تتجلى في كل زمن، لها طوقها ومعرفة وفيض مختلف، ولها سبق يضيء عبر مدارات لا تنطوي على بعضها ولا تتجسد، لها منظومة واحدة، فشتان بين الأزمنة البعيدة والبدء المدرسي الماثل بهذا الاحتفاء الجميل الباهر، ففي طور البدء، في هذا العام، أخذت المؤسسات التعليمية تبرز أهدافها المبرمجة، وكأنها تشرق على عالم معرفي ينم عن حضارة تعليمية، من البدء إلى أقصى العام، في سباق نظري وعلمي وإدراك للعالم والحياة، من منظور التكنولوجيا الكونية والذكاء الصناعي.
في كل عام نبتهج بالبدء الدراسي المختلف، ونلحظ هذا العام ما يبوح من خطوات علمية مختلفة، تنفرد عن سنوات مضت، بدء عام دراسي يتجسد بوضوح في إشراقات تحتفي بالعلم وبالطلبة وبمنظومة تعليمية متطورة تعكس المعنى الحقيقي للعلم والمعرفة والنظرة الأبعد للنجاح.